Friday, 29 May 2020

الحب في قصيدة غانم العناز: طــبـعُ الـهـوى




صـحـيـفـة ألـمـثـقـف
قراءات نقدية




ينشغل  نص الشاعر: غانم العناز الذي بين أيدينا بموضوعة الحب،  وهو من الموضوعات التي طالما انشغل بها الإنسان عموماً والشعراء بوجه خاص ؛ فالحب تلك العاطفة الإنسانية الجميلة السامية هي ميزة الله في مخلوقه الإنسان، وقد تمظهرت تجلياتها في لغة الشعراء الذين تفننوا في التعبير عنها، وسيبقى الحب سمت رؤيا الشاعر، وموجّه بوصلته التي لا تحيد عن جهة القلب، ولا تعرف طريقاً  إلا منه وإليه
يبقى الحب الميدان الأثير للشعراء، وهو ما يبدو إبداعاً مستمراً لا يقف عند حدود عمر محدد، أو حالة اجتماعية، أو منبت  طبقي ؛ ففي الحب يتساوى الناس جميعاً، فكيف عبر شاعرنا : غانم العناز عن هذه العاطفة، وكيف تجلَّتْ لغته في هذه القصيدة؟
يستهل الشاعر قصيدته بالحرف (لو)، وهو ما يُشير إلى مُتمنَّى غير مُحقَّق، وقد جاء استهلالاً موفقاً فيما أراد الشاعر أن يُخبر عنه، ويصل إليه في نهاية القصيدة التي جاءت تأكيداً لطبيعة الحب على اختلاف مذاقه، وتعدد ألوان معاناته غير أنه يظل حالة جميلة، وربما كانت لذَّ ة الحب في تلك المعاناة لدى المحبين الذين غالباً ما يقعون في صراع بين القلب وهواه، والعقل وعصاه، وفي هذا الصراع تبدو خصوصية الحالة وجمالية مكابداتها :
لو كان قلب المرء يرضى سامعاً
               للعقـل حكماً ثم يـبقى طائـعـا
لمـا سـمـعـنا هـائمـاً في عـشـقـه ِ
              يـشقى ولا صباً يداري أدمعا
لكن هيهات للقلب أن يطيع وللعاطفة أن تقبل بالطاعة : فكم أذل الحب عاشقاً وطوع أقوى الفرسان لإرادته؟!  وهو ما عبَّر عنه ابن حزم بقوله : "عندئذ تصبح صحبة المحب استسلاماً؛ فإذا وقعت المحبة تسبَّب عنها طاعة المحب للمحبوب"  
يقول شاعرنا العناز في تأكيد هذه الحقيقة :
ولا شـجـاعـاً قد غـدا مـستـسلماً
              أو عاقـلاً من حـبه قـد روّعـا
وأبعد من ذلك بل إن الحب يرفض الاستسلام، حتى من تعلق قلبه بالتقوى والصلاح ؛ فإنه في محراب الحب سيجد نفسه قد هام وراء طيوفه غير مبال بالرجوع، ألم يقل الشاعر: ربيعة بن عامر الدارمي  المعروف بالمسكين قديماً:
 قلْ للمليحةِ في الخمارِ الأسودِ            ماذا فعلْتِ بناسكٍ مُتعبّدِ
 قدْ كانَ شمَّر للصَّلاةِ ثيابَهُ  لمَّا وقفْتِ لهُ ببابِ المسجدِ
 وفي هذا السياق نجد وصف العناز :
أو نـاسـكاً قـد طـار مـنــه لـبـه ُ
            من نظرة ٍ لا يرتجى أن يرجعا
لـكـنه في الـحب يـبـقـى حاكـمـاً
            قلب الفتى والعقل يبدو ضائعـا
حتى تساوى فى الهوى شيخ وقـو
           رٌ مع غرير ٍ جامح ٍ ما قد وعى
والحب لا يمكن إخفاؤه أو التستر عليه، إذْ طالما كانت عيون المحبين فواتح قلوبهم، ومرايا عاطفتهم:
أهـل الهوى لو حاولوا أن يكـتموا
             سـر الهوى لـبات سـراً ذائـعـا
أهل الهوى لو جاهدوا من حبهـم
            أن يفلـتوا ما أجدى ذاك إصبعا
ويبدو الحب قدراً لا مفر منه؛ فهو سلطان يتملّك العاطفة حتى يطغى على كيان الإنسان كلّه : 
كـم ناصح ٍ أو عـاذل ٍ قـد حـاولـوا
         صدَّ مُحـبّ ٍ عن حـبـيـب ٍ أذرعـا
لكـنه يـجـري الهوى مـستـرسلا ً
         ما كان من طبع الهوى أن يركعا
يبدو في قصيدة شاعرنا العناز، وكأن الزمن هو الزمن منذ العصر الأموي إلى عصرنا الحالي، ولم يتغير إلا الشخوص، وما بين مسكين الدارمي ومسكين العنازي في عصرنا ثمة وشائج عاطفة لا تنقطع، وصلات مشاعر  ما زالت تؤكد حقيقة الحب في أجمل مظاهره، وأسمى تجلياته
في الحب تسمو الـروح في عـليائها
           والنفس قد تصفو صفاءً ناصعـا
الـحـب حـلـوٌ طـعـمـه أو عـلـقـمٌ
           من لم يـذق للحب طعـماً أدقـعـا
وهكذا تبدّت لنا صورة الحب في لوحة الشاعر غانم العناز بألوانها الزاهية، وقد تأطرت بلغة ذات توهّجٍ عالٍ من الخبرة، وتزركشت بريشة شاعر أتقن فنَّ الرسم بالكلمات، وهندسة القصيدة في تشكيلها البنائي عبر تدرج فكر، وتسلسل عبر، إذ جاءت القصيدة بلغة البوح الشفاف الذي خلا من بذاخة الصور، وتعرجات الانزياح في القول؛ لأنَّ الشاعر إنما أراد الصدق في البوح والتعبير، لا الانسياق وراء الانزياح و التصوير.

د. وليد العرفي
............
للاطلاع على القصيدة في المثقف


No comments:

Post a Comment