Saturday 1 March 2014

الذهب الاسود لاعمار العراق أو بلدٌ يطفو على النفط


 

الذهب الاسود لإعمار العراق

أو.... بلدٌ يطفو على النفطِ

   بقلم غانم العنّاز



يقال بأن أول وقود أطلقت عليه عبارة الذهب الاسود كان الفحم الحجري حيث كانت مناجمه تقارن بمناجم الذهب الشهيرة لكثرة ما درت من ارباح خيالية على مالكيها من جراء انتشار استعماله بصورة كبيرة خلال الثورة الصناعية للتدفئة في البيوت والمخازن والمصانع وكوقود للمحركات البخارية التي انتشر استعمالها بسرعة كبيرة في القطارات والمصانع والسفن التجارية والحربية والمطاحن والمضخات وما الى ذلك من المعدات الاخرى التي يصعب حصرها.

                      منجم فحم حجري حديث                  منجم فحم حجري قديم                   

  اما اطلاق عبارة الذهب الاسود على النفط فقد بدأ بعد اكتشافه بكميات تجارية كبيرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وزيادة استعماله بصورة كبيرة في بداية القرن العشرين كوقود  لمحركات الاحتراق الداخلي. ومع انتشار استعمال محركات الاحتراق الداخلي في السيارات والقطارات والبواخر والطائرات والدبابات وغيرها ازداد استعمال النفط بصورة كبيرة وتراجع استعمال الفحم الحجري تبعاً لذلك مما نتج عنه استعمال عبارة الذهب الاسود في وقتنا الحاضر للنفط بصورة رئيسية.
قد كان من غرائب الصدف ان يسعر النفط العراقي بالشلن (ذهب) في اتفاقية الامتيازات النفطية مع شركة نفط العراق في آذار 1931 كما مر ذكره في مقالتنا السابقة (نفط العراق وتسعيره بالذهب) مما اكد معادلة حقول النفط بمناجم الذهب ليضيف بذلك نكهة خاصة لعبارة الذهب الاسود المتعارف عليها الان.

النفط نعمة لا نقمة

لقد انعم الله علينا بثروة الذهب الاسود العظيمة هذه التي لو استطعنا استعمالها بحكمة وتعقل لجعلت من العراق بلداً متطوراً ينعم فيه المواطن بالعيش الكريم والأمن العميم وهذا ليس بالشيء العسير ان تكاتف الجميع في البناء بامانة واخلاص.

غير انه مما يؤسف له ان تلك الثروة الهائلة ذهبت هباءً منثوراً في خوض حروب طويلة عقيمة ليتبعها حصار بغيض خانق ادى الى تدهور الاقتصاد وهبوط قيمة الدينار العراقي الى الحضيض وما رافقه من غلاء فاحش. ثم جاء الغزو المقيت والاحتلال البشع الغادر وما تلى ذلك من هذه الحالة المأسوية التي تشهدها البلاد في ايامنا هذه من عدم الاستقرار واضطراب الامن واستشراء الفساد وغير ذلك من الآفات الكثيرة.

لقد راح ضحية هذا المسلسل الدموي الرهيب الملايين من ابناء شعبنا بين شهيدٍ ويتيمٍ ومعوقٍ ومشردٍ ومهجرٍ او مهاجر، لتنقلب تلك النعمة العظيمة الى نقمة أليمة اوصلتنا الى ما نحن عليه اليوم من خراب شامل وفقر مدقع وفوضى عارمة وقسوة صارمة تدمى لها القلوب وتدمع لها العيون.

فقد كتبت قصيدة قصيرة باللغة الانكليزية، منشورة في كتابي صناعة (النفط والغاز في القرن العشرين) الصادر باللغة الانكليزية في ايار 2012، بهذا المعنى اطلق عليها صديقي العزيز الدكتور اسماعيل الجليلي عنوان

(Iraq’s Troubled Oil)

أو (نفط العراق المضطرب)

وفي ما يلي نصها وترجمتها الى العربية بشيءٍ من  التصرف.

IRAQ’S TROUBLED OIL

Iraq

A country floating on oil

Some oil was set on fire

To get the whole oil boil

To brew a fatal stew

Of war, blood and toil

Courtesy of Chefs greed

Ignorance and broil

 

حرائق النفط العراقي

نفط العراق المضطرب

العراق

بلدٌ يطفو على النفطِ

أضرمتِ النارُ بجزءٍ يسيرْ

لغلي ما بقى من النفطِ الكثيرْ

 لطهي حساءٍ فاسدٍ مسمومْ

من دماءٍ وحروبٍ وهمومْ

بأيدي جمعٍ من طهاةٍ مهرهْ

جشعٌ مِنهمو والجهلُ والمشاجرهْ

 

الذهب الاسود ومجلس الاعمار العراقي

اما في منتصف القرن الماضي فقد استعملت هذه الثروة بصورة عقلانية وفعالة خلال الفترة 1951 – 1963 من قبل مجلس الاعمار الشهير المؤلف من تسعة منهم رئيس الوزراء (رئيساً) وعضوية وزير المالية ووزير الاعمار الذي يقوم بالتنسيق بين مجلس الاعمار ومجلس الوزراء في الحكومات المتعاقبة. اما اعضاء المجلس الستة الدائميين المستقلين فيختارون ممن يشهد لهم بالعلم والنزاهة والاخلاص، معظمهم من خبراء المال والاقتصاد، وذلك بعد ان حصن المجلس ضد التدخل في شؤونه سواء كان ذلك مباشراً أوغير مباشر من قبل كافة الجهات سواء كانت رسمية أو غير رسمية.

  خزانات تصدير النفط العملاقة في كركوك

اما اهم اهداف المجلس فكانت النهوض بالواقع العمراني والاقتصادي والصناعي والزراعي والخدمي في العراق عن طريق وضع خطط متكاملة سواءً كانت قصيرة او طويلة الامد لتنفيذ المشاريع المتعددة بهدف رفع مستوى معيشة الشعب من خلال توفير الخدمات والوظائف وفرص العمل التي ستوفرها تلك المشاريع سواءً خلال فترة تنفيذها أو بعد انجازها.

ميناء لتصدير النفط

كان على المجلس ان يقدم تقاريره وخططه ومشاريعه وميزانيته وما الى ذلك من المعلومات اللازمة الى مجلس الوزراء للمصادقة عليها لتقدم بعدها الى البرلمان لموافقته. يقوم المجلس بعد ذلك بتنفيذ تلك المشاريع بحرية كاملة بالطرق المناسبة  التي يراها ليقوم خلال ذلك بتقديم تقاريره الدورية عن تقدم العمل في تلك المشاريع الى مجلس الوزراء لابداء ملاحظاته وتوجياته حول ما جاء فيها.

 مشاريع مجلس الاعمار الرئيسية

حددت ميزانية المجلس بكامل ايرادات النفط في العام 1950 لتخفض الى 70% في السنين اللاحقة. صرف الجزء الاول من تلك الايرادات على مشاريع قطاع الري والزراعة والسيطرة على الفيضانات الموسمية المدمرة التي كانت تغرق العاصمة بغداد والكثير من المدن والقرى وذلك باصلاح الاراضي وشق الترع وبناء السدود التي ما زالت قائمة حتى يومنا هذا كسدي دوكان ودربندخان وسدة سامراء وناظم الثرثار ومنخفض الحبانية وغيرها.

 
 
  سد دوكان                                                       سد دربندخان                 

وقد يكون من المناسب هنا ذكر شركة بني وديكون وغورلي الاستشارية البريطانية

)Binnie, Deacon and Gourley(

 التي قامت باعداد الدراسات والتصاميم الخاصة بمشاريع الري تلك. فقد كانت الملحقية الثقافية في السفارة العراقية في لندن في ذلك الزمان تعد برامج خاصة لتدريب طلبة البعثات خلال عطلاتهم الصيفية مع الشركات البريطانية العاملة في العراق. وقد كان من حسن حظي ان التحق خلال عطلتي الصيفية مع تلك الشركة في مقرها في لندن في صيف 1957 لاقضي ما يقارب الثلاثة اشهر للتدريب والتعرف على قسم من تلك المشاريع. لقد كانت تلك البرامج التدريبية، ولا زالت، مهمة جداً لتعريف الطلاب بالجانب العملي والتطبيقي لدراستهم ، فهل يا ترى تقوم ملحقياتنا الثقافية بمتابعة وتدريب طلاب بعثاتنا هذه الايام مع الشركات التي تعمل في العراق؟

 صرف الجزء الثاني من تلك المبالغ على قطاع الابنية والمواصلات والخدمات التي شملت مشاريع انشاء المساكن والابنية الحكومية والمستشفيات كمشروع مدينة الطب في بغداد والمدارس والكليات اضافة الى مشاريع الطرق الرئيسية كطريق الحلة/الكوفة/النجف وطريق بغداد/الفلوجة والجسور كجسر الملكة عالية او الجمهورية لاحقاً وجسر الأئمة في بغداد ومنشآت تصفية واسالة المياه ومحطات توليد الطاقة الكهربائية وشبكات نقلها وتوزيعها الى غير ذلك من المشاريع الحيوية.   

 
سدة سامراء وناظم الثرثار

اما الجزء الثالث من تلك الايرادات فقد تم صرفه على القطاع الصناعي الذي شمل انشاء معامل الطابوق والسمنت كمعمل سمنت سرجنار في السليمانية لسد حاجة البلد المتزايدة من المواد الانشائية. كما شمل ذلك انشاء معامل حديثة للنسيج كمعمل النسيج في الموصل ومعملي الحديد والورق في البصرة والاثاث والجلود والاغذية والمشروبات الغازية كمعمل السكر في الموصل ومعمل الالبان في ابي غريب وغيرها لتلبية الطلب المتزايد على تلك السلع والمواد الاساسية من قبل المستهلك العراقي. كما شمل هذا القطاع انشاء مصفى القير في القيارة ومصفى الدورة في بغداد لتلبية الزيادة الكبيرة التي حصلت في استهلاك المنتجات النفطية.

لقد كُتب الكثير عن انجازات واخفاقات مجلس الاعمار غير انه لا بد لكل منصف من الاعتراف بان انجازاته كانت عظيمة ومشاريعه التي ما زالت قائمة حتى اليوم تشهد له بذلك.

 كما ان استقلاليته ونزاهته جديرة بالتقدير والاحترام، فأين تلك النزاهة والاخلاص بالعمل مما نراه اليوم من المشاريع الوهمية التي تذهب فيها الاموال ادراج الرياح دون تنفيذها  أو الفساد المستشري في تنفيد المشاريع الاخرى التي احسنها كما يقال اعرج او كسيح؟

نعم لمجلس إعمار جديد

لقد ظهرت في الآونة الاخيرة اصوات من جهات مهنية رصينة وشخصيات وطنية شريفة واقتصادية متمرسة عفيفة وسياسية مستقلة نظيفة وهندسية وفنية  خبيرة تدعو الى انشاء مجلس اعمار مستقل على غرار مجلس الاعمار السابق لاصلاح هذا الخراب الشامل والدمار الكامل الذي يشهده العراق في هذه السنين العجاف.

ان من اهم الامور التي يجب الاخذ بها لانجاح المجلس الجديد هي ضمان خبرات  ونزاهة واستقلالية اعضائه ومنحه الصلاحيات اللازمة للعمل بحرية تامة وذلك بسن القوانين التي تحصنه وتحميه وتحد من التدخل في شؤونه من اية جهة سواء كانت رسمية أو غير رسمية. حيث انه مسؤول تجاه مجلس الوزراء فقط، ياخذ تعليماته وتوجيهاته منه ليقدم على ضوئها برامجه للمشاريع القصيرة والطويلة الامد للمصادقة عليها ليقوم بعد ذلك بتنفيذها بالطريقة السليمة التي يراها.

لذا فاننا نضم صوتنا الى تلك الاصوات الوطنية الشريفة التي تدعو لانشاء مجلس اعمار جديد تخصص له نسبة ثابتة من واردات الذهب الاسود الهائلة للمباشرة بإعمار العراق لرفع المعاناة المزمنة، من بطالة مرتفة وخدمات متدنية وامراض متفشية وفقر مدقع وجهل مخجل وفوضى عارمة وقسوة غاشمة وفساد مستشري وتعصب اعمى وامتهانٍ لكرامة المواطن وسلبٍ لحقوقه وغيرها من مثل هذه الآفات التي تنخر في مجتمعنا.

إننا بذلك نستطيع تحقيق ما يصبو اليه الجميع من استتبابٍ للأمن والاستقرار وتثبيتٍ لدعائم العمران والرخاء في ربوع الوطن العزيز فقد طال الانتظار ونفد الصبر وعزّ الرجاء حتى بلغت القلوب الحناجر.

راجين من الله عز وجل ان يصفي القلوب ويوحد الكلمة ويشيع الإخاء ليجمع الشمل ويعيد المحبة والرخاء والحياة الكريمة الى كافة ابنائنا واهلينا الكرام.

غانم العناز

آذار 2014

المصدر - كتابى  العراق وصناعة النفط والغاز في القرن العشرين الصادر بالغة الانكليزية عن دار نشر جامعة نوتنكهام البريطانية في ايار 2012
  

Comments

معن الغلامي
03/03/2014 6:37pm
اراء سديده وتوثيق دقيق لحقبة زمنيه مهمه عاشها بلدنا العزيز وكان لها اثر بالغ في بناء كيانه الصناعي وتكوين بنيته التحتيه ولكن اتت الرياح بما لاتشنيهه السفن وحدث ما حدث الى ان وصلنا الى الحلقة القاتمة التي نعيشها اليوم في ظل بناء ركيك متدني للدولة وتدهور في تقديم الخدمات اضافة الى هدر بصورة جونيه للمال العام كل ذك وما يتبعه من سيادة لمفاهيم جديده وثقافات دخيله احرقت كل سنابل الخير والعطاء وحاولت قلع اشجار مثمره وداست على اغصان طريه اريد لها ان تموت قبل ان تولد والاسباب لما ذكرنا كثيرة ومعروفه ليس اسؤها الاحتلال الغيض وما كرسه من مفاهيم جديده والموضوع مؤلم وشاق وبحاجة الى تظافر جهود لمخلصين والغيارى من علماء ومختصين لاعادة الامور الى نصابها اجل استاذي الكريم نحن بحاجة الى مجلس اعمار جديد يتسامى فوق المفاهيم الحديثه والثقافة المقيتة التي اراد المحتل واعوانه ان تسود بوركت استاذنا الكريم والامل بنهوض هذا البلد باالله تعالى اولا وباهله &
Reply
معد الجبوري
04/03/2014 9:32am
الشاعر وخبير النفط الأستاذ غانم العناز
مقالة موجزة دقيقة عن الذهب الأسود ووضعنا الحالي .. والجميلفيه أنك عرجحت على فترة ذهبية في استخدام عائدات النفط فيالعراق في خمسينات القرن المنصرم
أضم صوتي إلى صوتك بالدعوة إلى(إنشاء مجلس إعمار مستقل لاصلاح الخراب الشامل والدمار الكامل الذي يشهده العراق في هذه السنين العجاف(. ولكن من يضمن نزاهته في زمن استشرت فيه السرقات بشكل علنيوبات الذي لايمد يده إلى المال العام من الأشخاص النادرين؟
أحييك على هذه المقالة الجميلة المزينة بالصورعزيزي العناز ... معد الجبوري
Reply
04/03/2014 10:01am
شكراً لك عزيزي الاستاذ المهندس معن الغلامي على اضافتك القيمة ومساندتك لانشاء مجلس اعمار مستقل ينهض بالبلاد من كبوتها من جديد. اننا ندعو ساستنا الى الاصغاء الى منطق العدل والعقل من اراء وتوصيات مواطنينا ذوي الخبرة والاختصاص في هذا المجال وافساح المجال امامهم للعمل بامانة واخلاص لاعادة اعمار ما خربته ايادي الغزاة والمحتلين والطامعين كي يعود الامن والاستقرار والرخاء لكافة ابنائه الكرام
مع اطيب تمنياتي لك بكل خير
غانم العنّاز
Reply
04/03/2014 3:43pm
عزيزي الشاعر الخلاق معد الجبوري، صوت الحق الذي يهدر كالشلالات المتدفقة من الاعالي للدفاع عن وطننا العزيز وابنائه الشرفاء من غدر الغادرين وحقد الحاقدين
اقول مرة اخرى ما دام هناك رجال من امثالك الطيبين فلن يخيب الظن في وصولنا الى شاطئ الامان لاشاعة الاستقرار والرخاء في كافة ربوع العراق
احييك بدوري واشكر لك اضافة صوتك الهادر الى اصوات هذه النخبة الطيبة من ابناء الوطن في دعوتهم الخيرة لانشاء مجلس اعمار مستقل ينقذ البلاد من هذه المحنة التي طال امدها